الأحد، 18 سبتمبر 2016

البيرة —‏ قصة المشروب الذهبي اللون


بمَ يحلم عادة رجل عطشان؟‏ في بلدان كثيرة،‏ سواء كان هذا الرجل عاملا عاديا او رجل اعمال،‏ قد يخطر على باله كوب من مشروبه الذهبي المفضل المتوَّج برغوة بيضاء غنية والمميَّز بطعمه المرّ اللذيذ.‏ فيتأوه قائلا:‏ «يا ليتني احصل على كوب بارد من البيرة!‏ انا مستعد ان ادفع ثمنه غاليا!‏».‏
منذ فجر التاريخ يشرب الناس البيرة.‏ وقد حافظ هذا المشروب على شعبيته طوال آلاف السنين،‏ وصار في اصقاع كثيرة جزءا لا يتجزأ من الحضارة المحلية.‏ ولكن من المؤسف ان البيرة اصبحت تسبّب المشاكل للذين يسرفون في شربها،‏ وخصوصا في بعض البلدان الاوروپية.‏ غير ان مَن يشربها باعتدال يتمتع بميزاتها ونكهتها الفريدة.‏ فلنتعرّف معا الى تاريخ هذا المشروب الشعبي.‏
تاريخ صناعة البيرة
تبرهن اللوحات المسمارية التي وُجدت في ارض السومريين القدماء في بلاد ما بين النهرين ان البيرة عُرفت في هذه المنطقة منذ الالف الثالث قبل الميلاد.‏ كما كان هذا المشروب في الفترة نفسها يزيّن طاولات البابليين والمصريين.‏ ففي بابل صُنع ١٩ نوعا مختلفا من البيرة.‏ وتضمنت مدوَّنة حمورابي قوانين خاصة تنظم صناعة هذا المشروب وتحدِّد على سبيل المثال سعره.‏ وقد حُكم بالموت على كلِّ مَن خرق هذه القوانين.‏ وفي مصر القديمة ايضا انتشرت هذه الصناعة واعتُبرت البيرة من المشروبات المفضلة.‏ وقد كشفت الحفريات الاثرية التي أُجريت في مصر عن اقدم وصفة مكتوبة لصنع البيرة.‏
وصلت صناعة البيرة اخيرا الى اوروپا.‏ فبعض المؤرخين الرومان في بداية العصر الميلادي ذكروا ان السَّلْتيين والجرمانيين وقبائل اخرى تمتَّعوا بشرب البيرة.‏ كما آمن الڤايكِنْغْز بأن كؤوس الرجال ستفيض بالبيرة حتى في ڤالهالا،‏ مثوى المحاربين الشجعان بحسب الاساطير الاسكنديناڤية.‏
خلال القرون الوسطى في اوروپا،‏ انتقلت صناعة البيرة الى الاديرة.‏ فحسّن الرهبان هذه الصناعة مستخدمين الجُنجل او حشيشة الدينار كمادة حافظة.‏ كما ادّى التطوّر الصناعي الذي شهده القرن الـ‍ ١٩ الى مكننة صناعة البيرة،‏ فشكّل ذلك حدثا هاما في تاريخ هذا المشروب الشعبي.‏ ثم تلا ذلك بعض التطورات العلمية البالغة الاهمية.‏
فقد اكتشف الكيميائي الفرنسي والاختصاصي في الاحياء المجهرية لويس پاستور ان الخميرة التي تخمّر البيرة تتكوّن من عضويات حية.‏ فساعد هذا الاكتشاف على ضبط عملية تحوُّل السكر الى كحول بشكل ادقّ.‏ كما اصبح عالِم النبات الدانماركي،‏ اميل كريستيان هانسن،‏ احد اهم الشخصيات في تاريخ صناعة البيرة.‏ فقد قضى هانسن حياته وهو يجري ابحاثا حول مختلف انواع الخميرة ويصنِّفها.‏ وشملت ابحاثه طريقة لإيجاد سلالة نقية من خميرة البيرة،‏ مما احدث فعليا ثورة في هذه الصناعة.‏
ولكن هل صنع البيرة عملية صعبة حقا؟‏ قد يبدو لك هذا الامر مستبعدا،‏ لكنه ليس كذلك.‏ فلنتأمل قليلا في السرّ الكامن وراء كوب البيرة اللذيذ المذاق.‏
قبل ان تصير في متناول يدك
على مرّ القرون،‏ أُدخلت تعديلات كثيرة على صناعة البيرة.‏ واليوم ايضا تختلف طرائق اعدادها من مصنع الى آخر.‏ لكنّ البيرة على انواعها تحتوي عموما على اربعة مكوّنات رئيسية:‏ الشعير،‏ الجُنجل او حشيشة الدينار،‏ الماء،‏ والخميرة.‏ ويمكن تقسيم عملية صنع البيرة الى اربع مراحل:‏ الإملات،‏ تحضير نقيع المَلْت،‏ التخمُّر،‏ والإنضاج.‏
الإملات:‏ في هذه المرحلة،‏ يُصنَّف الشعير ويُوزن،‏ ثم يُنقّى من الشوائب.‏ يُنقع الشعير بعد ذلك في الماء،‏ خطوة ضرورية لاستنباته.‏ يتمّ الاستنبات على حرارة ١٤ درجة مئوية تقريبا ويستغرق من خمسة الى سبعة ايام.‏ وفي نهاية هذه الفترة يُنقل المنتج الاخير،‏ اي المَلْت الاخضر،‏ الى افران خصوصية ليُجفَّف.‏ فتُخفَّض رطوبته لتصبح ٢ الى ٥ في المئة بغية ايقاف الاستنبات.‏ بعد التجفيف،‏ تُزال من المَلْت الفروخ المستنبتة ويُطحن.‏ فننتقل بذلك الى المرحلة الثانية.‏
تحضير نقيع المَلْت:‏ يُمزج المَلْت المطحون بالماء فنحصل على هريس.‏ يُسخَّن هذا الهريس تدريجيا،‏ فتبدأ الانزيمات عند درجات حرارة معيّنة بتفكيك النشاء الى سكَّر بسيط.‏ تستغرق هذه المرحلة اكثر من اربع ساعات وينتج عنها نقيع المَلْت،‏ الذي يُصفَّى لإزالة الشوائب منه.‏ يلي ذلك عملية الغلي التي توقف عمل الانزيمات.‏ وأثناء الغلي،‏ يُضاف الجُنجل او حشيشة الدينار الى النقيع لإعطاء البيرة نكهتها المرّة.‏ وبعدما يُغلى النقيع حوالي ساعتين،‏ يُبرَّد ليبلغ الحرارة المطلوبة.‏
التخمُّر:‏ هذه المرحلة هي على الارجح اهم مراحل صناعة البيرة.‏ فبواسطة الخميرة يتحوَّل السكَّر البسيط الموجود في نقيع المَلْت الى كحول وثاني اكسيد الكربون.‏ وتُحدَّد درجة الحرارة المطلوبة والمدة التي تستغرقها هذه المرحلة وفق نوع البيرة:‏ المِزر او البيرة المعتقة.‏ ولا تتجاوز هذه المرحلة الاسبوع كحد اقصى.‏ بعد ذلك تُنقل البيرة الى احواض مخزَّنة في اقبية وتُترك هناك لتنضج.‏
الإنضاج:‏ في هذه المرحلة،‏ تكتسب البيرة طعمها ونكهتها المميَّزين؛‏ وتصبح مكربنة طبيعيا مما يسبِّب الفوران الذي تتميز به.‏ تنضج البيرة خلال فترة تتراوح بين ثلاثة اسابيع وشهور قليلة،‏ وذلك حسب نوعها.‏ اخيرا،‏ تُعبّأ البيرة في براميل خشبية او قنان وتصير جاهزة لتُرسل الى المكان المنشود،‏ ربما الى طاولتك!‏ ولكن اي نوع من البيرة تحب ان تجرّب؟‏
البيرة انواع
تختلف البيرة كثيرا باختلاف انواعها.‏ فيمكنك التمتع بشرب البيرة الفاتحة او الداكنة،‏ الحلوة او المرّة،‏ والمصنوعة من الشعير او من القمح.‏ ويتأثر مذاق البيرة بعوامل عديدة مثل نوع الماء،‏ نوع المَلْت،‏ التقنية المستعملة،‏ ونوع الخميرة.‏
احد اشهر انواع البيرة هو بيرة پلزنر،‏ وهي النوع التقليدي الفاتح اللون الذي تنتجه مئات المصانع حول العالم.‏ لكنّ الپلزنر الاصلية تُصنع فقط في مدينة پلزن الواقعة في الجمهورية التشيكية.‏ ولا يكمن سرّ صنعها في التقنية المتبعة فحسب،‏ بل ايضا في المواد الاولية المستعملة:‏ الماء اليسر الخالي من املاح المڠنيزيوم والكلسيوم،‏ المَلْت ذي الجودة العالية،‏ وخميرة البيرة المناسبة.‏ —‏ انظر الاطار.‏
ثمة بيرة ممتازة اخرى هي الڤايسبير المصنوعة من القمح والرائجة خصوصا في المانيا.‏ اما بريطانيا فتتميز بالپورتر والستاوْت.‏ الپورتر porter هي بيرة قوية،‏ تُعدّ بالتخمير السطحي وتُصنع من المَلْت المحمَّص الذي يعطي هذا النوع من المشروب لونه الداكن.‏ صُنعت الپورتر للمرة الاولى في لندن في القرن الـ‍ ١٨.‏ وأُعدَّت من حيث الاساس كمشروب «مغذّ» يتناوله العمال الكادحون كالحمالين (‏porters بالانكليزية)‏.‏ اما بيرة الستاوْت الداكنة والثقيلة فتختلف قليلا عن الپورتر التقليدية،‏ وقد اشتهرت في ايرلندا وفي مختلف انحاء العالم بفضل عائلة ڠينيس.‏ ويمكنك ان تختار بين الستاوْت الانكليزية الحلوة المذاق التي تحتوي عادة على اللاكتوز (‏سكر الحليب)‏ والستاوْت الايرلندية المرّة التي تحتوي على نسبة اعلى من الكحول.‏
هنالك عامل آخر يهم محبي البيرة وهو كيفية شربها.‏ فالبعض يشربونها في قنان او عبوات.‏ والاميركيون يحبونها مثلجة،‏ في حين يفضلها آخرون معتدلة الحرارة او باردة ومأخوذة مباشرة من البراميل المخزنة في اقبية الحانة.‏
حقا،‏ البيرة انواع.‏ وهي نافعة لصحتك شرط الا تفرط في شربها.‏ فالبيرة تحتوي على عدة انواع مهمة من الڤيتامينات والمعادن مثل الريبوفلاڤين،‏ حمض الفوليك،‏ الكروم،‏ والزنك.‏ وبحسب بعض المراجع المختصة،‏ ان شرب البيرة باعتدال يمكن ان يساعد على الوقاية من امراض القلب والمشاكل الجلدية.‏ فإذا اخترت انواعا جيدة من البيرة وشربت منها باعتدال،‏ فقد تتمتع بهذا المشروب المنعش واللذيذ.‏ لذلك،‏ عندما تجلس في المرة القادمة امام كوب من هذا المشروب الذهبي المتوَّج برغوة بيضاء،‏ تذكر قصته المذهلة.‏

فريق العمل
في الازمنة الماضية،‏ كان عدد كبير من الاشخاص ذوي المهن المختلفة يشتركون في صناعة البيرة.‏ وإليك بعضا منهم.‏
صانع المَلْت:‏ كان اول من يبدأ بصناعة البيرة.‏ وقد أُوكلت اليه مهمة انتاج المَلْت من الشعير او القمح.‏ فكان يشرف على استنبات الحبوب وتجفيف المَلْت الاخضر.‏ وقد اعتُبرت مهمته هذه مسؤولية كبيرة،‏ اذ ان طعم البيرة المُنتجَة يعتمد الى حد بعيد على نوعية المَلْت.‏
صانع البيرة ‏(‏في الاعلى)‏:‏ تولّى صانع البيرة مسؤولية الغلي.‏ فكان اولا يحضر الهريس بخلط المَلْت المطحون بالماء.‏ ثم يضيف الجُنجل او حشيشة الدينار اثناء الغلي،‏ ليحصل في النهاية على نقيع المَلْت.‏
المشرف على التخزين:‏ هو اخصائي ذو خبرة تولّى الاشراف على عملية تخمُّر البيرة في الاحواض ونضوجها في الاقبية.‏ وكان هو مَن ينقل المنتج الاخير الى اوعية اصغر.‏


پلزنر —‏ البيرة الاكثر تقليدا
تبدأ القصة سنة ١٢٩٥.‏ فبعدما اسَّس ملك بوهيميا،‏ ونسسلاس الثاني،‏ مدينة پلزن بوقت قصير،‏ منح ٢٦٠ من مواطنيها حق صنع البيرة.‏ في البداية،‏ صنع المواطنون البيرة في بيوتهم بكميات قليلة فقط،‏ لكنّهم شكّلوا لاحقا نقابات وأسسوا مصانع لإنتاج البيرة.‏ لكن مع مرور الوقت،‏ شهدت بوهيميا تراجعا اقتصاديا وحضاريا اثَّر سلبا في صناعة البيرة.‏ فقد تجاهل صانعوها التقنية التقليدية واستعملوا وصفاتهم الخاصة،‏ مما ادى في اغلب الاحيان الى انتاج مشروب طعمه كريه الى حدّ انه لا يستحق ان يُدعى بيرة.‏
في ذلك الوقت،‏ كان يُنتَج في اوروپا نوعان من البيرة.‏ ففي بوهيميا،‏ صُنعت البيرة ذات التخمير السطحي في حين انتشر في باڤاريا نوع من البيرة اجود بكثير صُنع بالتخمير القاعي.‏ فنشأت هوة كبيرة بين بيرة باڤاريا وبيرة پلزن.‏
لكن سنة ١٨٣٩،‏ حدثت نقطة تحول مهمة.‏ فقد قرر نحو ٢٠٠ مواطن من پلزن ايجاد حلول للوضع القائم.‏ فأسسوا مصنع برجس للبيرة،‏ ولم تكن تُصنع فيه سوى البيرة ذات التخمير القاعي،‏ او البيرة على النمط الباڤاري.‏ كما استُدعي صانع البيرة الشهير يوزِف ڠرول من باڤاريا ليعمل في هذا المصنع.‏ فباشر العمل فورا لإنتاج بيرة باڤاريا التقليدية.‏ وكانت النتيجة التي حصل عليها مختلفة جدا عن بيرة باڤاريا التقليدية.‏ لكنّها كانت افضل بكثير مما توقع.‏ فخبرة ڠرول بالاضافة الى المواد الاولية المحلية الممتازة ساهمت في انتاج بيرة لم تلبث ان اكتسحت العالم.‏ لماذا؟‏ بسبب ما تميزت به من مذاق ولون ونكهة.‏ لكنّ شهرة بيرة پلزن كانت لها سلبياتها ايضا.‏ فبهدف الاستفادة من هذا التطور،‏ صار العديد من مصنّعي البيرة يطلقون على منتجاتهم اسم پلزنر.‏ فلم تعد پلزنر بالتالي مشهورة فحسب،‏ بل ايضا المشروب الذهبي الاكثر تقليدا في العالم.‏

هناك تعليق واحد:

  1. ممكن لو سمحت طريقة عمل البيرة العادية المصنوع من الشعير او القمح بلتفصيل والمقادير المطلوبة

    ردحذف

صناعة نبيذ العنب على الطريقة الفرنسية

الفرنسيون اكثر من اجادو في صناعة نبيذ العنب لأن فرنسا بلد تطل على البحر المتوسط و بالتالي مناخها معتدل صيفا و شتاء و بالتالي هي من افضل الد...